16 - 08 - 2024

تعا اشرب شاي| مربوط عالدرجة الاولى والناس درجات

تعا اشرب شاي| مربوط عالدرجة الاولى والناس درجات

حين انتهيت من دراستى بالمرحلة الابتدائية سافرت مع اسرتى الى احدى الدول العربية حيث حصل ابى على اعارة للعمل هناك ، كنت فتاة متفوقة عادة ما احتل المركز الأول على فصلى الدراسى واشارك دائما فى مسابقات اوائل الطالبات مع زميلاتى المتفوقات من الفصول الاخرى.

كان من عادة ابى ان يوقع على الشهادة بفخر شديد حين احصل على المركز الاول ، اما اذا وجد فى الشهادة خلاف ذلك لا قدر الله ، فكان يكتفى بكتابة كلمة "نظر" بخط لا يكاد يرى بالعين المجردة.

 ظلت الاحوال على مايرام حتى وصلت الى الصف الثانى الثانوى ، فقد قررت إدارة المدرسة تشكيل صف دراسى للمتفوقات ، ربما كان الاهون على وقتها ان يضعونى فى تشكيل عصابى على ان يضعونى مع صديقاتى المتفوقات ، فأنا انسانة مسالمة  لا اريد ان تكون بينى وبينهن ثمة منافسة فأخسرهن او اخسر المركز الأول فأغضب ابى ، كنت أتعامل بمثالية شديدة فلا اتكلم ولا اتعدى على دور احداهن ، فإذا اصابنى الدور ، تأخذ الحماسة بإحداهن فتجيب قبل ان افتح فمى، فأسيطر على نفسى بصعوبة شديدة خشية ان انقض عليها وأقوم بعضها فى احدى عينيها كما فعل الليمبى مع المواطن الذى تدخل فى حديثه مع المذيعة .

وفى أحد الأيام جلست بينى وبين نفسى وتخيلت أبى وهو يوقع ب "نظر" فهذا وارد جدا فى مثل هذا الوضع الشائك ، أحسست اننى فقدت فرامل اعصابى وتصببت زيتا وجازا ، و فجأة ظهر لى شيطان يبدو انه رآنى قاعد لوحدى ، كدة سرحان قعد يقوللى اخلع يلا ، حتاخد "نظر" يلا ، وفى الصباح حسمت امرى ، دخلت حجرة المعلمات بكبرياء وشمم ، فأنا ولا فخر متى اضع العمامة يعرفونى . قصدت احداهن وطلبت منها اللجوء السياسى الى فصل اخر، اندهشت المعلمة لطلبى ونصحتنى بالاستمرار فى مكانى الا انى اصررت على موقفى فقبلت طلبى على مضض .

 لن انسى ما حييت تلك اللحظة التى دخلت فيها فصل "البلدة" كما كانوا يطلقون عليه، لم يكن التصنيف تبعا للتفوق فقط ، بل كان يتبع السلوكيات ايضا ، فبدوت بينهن كنملة دخلت ثقبا لا يخص عائلتها ، كانت سنة كبيسة ، لم أستفد منها شيئا يذكر، ولا اجتهدت بالقدر المطلوب ومع ذلك لم اتفاجأ بالطبع بحصولى على المركز الأول بفارق المجموع الكلى عن المركز الثانى والأخير .

 اتذكر ان ابى أهدانى قلادة ذهبية وعندما هممت بإرتدائها ، اذا بصوت المرحوم زكى رستم يخترق أذنى قائلا بقرف: يا أمانى إنتى المفروض تخجلى من نفسك، فوضعتها جانبا وكأنما قد مسنى تيار كهربى ، فقد كان الاشرف لى بحق ان احصل على المركز العاشر فى صف المتفوقين .

 فى هذا العام انتهت اعارة ابى وعدنا الى مصر وانا اجهل كل شىء عنها ، فلا اعرف إلا تاريخ الخليج وجغرافيته والربع الخالى الذى استطيع ان ادعى بتواضع العلماء انى كنت اعرف تماما لم هو خالى وليس عمى او اخى او المحروس ابن اختى مثلا؟

 كان التحدى كبيرا، خاصة عندما التحقت بالمدرسة وفوجئت بمستوى الطالبات كانت غالبيتهن متفوقات ، ومع ذلك رفضت كل عروض أسرتى للاستعانة بالدروس الخصوصية ، واكتفيت بدرس واحد فى مادة اللغة الإنجليزية ، استشار أبى أحد أصدقائه فرشح له "مستر عبد الخالق" ، بس يارب يكون وقته يسمح ، هكذا أخبرنا ، وبعد وساطة الرجل جاء المستر ، كان فى منتصف الأربعينيات ، رجل ضخم البنية ، ذو شعر طويل اشعث ، له سالفان طويلان يتقدمان أذنيه ووجه قاس لا يعبر عن شئ اللهم الا عن الإستياء  ، يرتدى قميصا خفيفا مهما بلغت برودة الجو ويفتح ازراره حتى منتصف صدره وبنطالا من الجينز ، كان رجلا غريب الأطوار ، يأتى أثناء صلاة الجمعة ، فيقابل أبى على السلم اثناء نزوله لأداء الصلاة فيتلقى التحية ويصعد تاركا ابى وراءه يضرب كفا بكف وهو يتمتم فى سره : ويخلق مالا تعلمون .

 كانت للرجل شروط خاصة فى الكرسى الذى سيجلس عليه ونوع القهوة التى يحرص على تناولها وإضاءة الحجرة ....الخ ومع ذلك أشهد الله أنه تنازل ولم يشترط علينا يوما ان يأخذ قيلولته فى حجرة "المسافرين" .

 باختصار كان مستر عبد الخالق كائنا بوهيميا يفعل ما يحلو له كما قال الفنان العيسوى فى فيلم "يارب ولد" ، كان من عادته أن يحدثنى بصيغة المذكر فيسألنى : إنت عملت الهوم وورك؟ ، أتحسس فمى على الفور فربما اعتلاه شارب من حيث لا أدرى !!

فى ذلك العام ، بذلت جهدا ذهنيا و نفسيا عنيفا ، كثيرا ما كان أبى يربت على كتفى بحنان بالغ وهو يقول : إنتى عملتى اللى عليكى والله يا بنتى لو سقطتى ما حازعل ، قومى نامى وارتاحى.

 اتذكر فى نهاية العام ان المستر سألنى سؤالا وأجبت اجابة غير صحيحة فبكيت ، ولأول مرة وجدته يحدثنى برقة: انت كويس و اشطر حد أنا بادرسله ، فتبادرت الى ذهنى على الفور تلك التجربة المريرة فى فصل "البلدة" وإنفجرت فى البكاء قائلة وانا انهنه : يا مستر اكيد كلهم فشلة و بعدين ياريت تروح تدرس تاء التأنيث بالعربى بتاعك دا ، عااااااااء .

 انتهت السنة الدراسية بمفاجأة لم اتوقعها ، فقد حصلت على المركز الأول بفارق نصف درجة عن مجموع صاحبة المركز الثانى و الثانى مكرر ، وسط اجواء جميلة كلها حب وألفة على عكس ما تخيلت ، واجزم الآن بعد مرور كل هذه السنوات أننى لم أكن سأحزن قط لو كان ترتيبى قد وقع فى ذيل تلك الكوكبة الرائعة ، وقتها فقط شعرت أن من حقى أن أتحلى بالقلادة التى أهداها لى ابى ، والتحقت بكلية الإعلام و كان أول ما تعلمته هناك أن الكلب اذا عض انسانا فهذا ليس بالخبر الصحفى ، اما لو عض الانسان كلبا فهذا هو الخبر ، بينما علمتنى التجربة أن الفوز لا يصح أن يكون خبرا إلا إذا كان عن اجتهاد ومنافسة حقيقية.